العلاقة الأخرى لموضوع الميثاق هي علاقته بموضوع القدر وهو من أجل وأهم الموضوعات، لأنه ركن من أركان الإيمان، ولا يصح إيمان أحد إلاّ به "ولو أنفق الإِنسَان مثل أحد ذهباً ما تقبل منه حتى يؤمن بالقدر" كما صرح بذلك أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن الرجل لا يؤمن ولا يتقبل منه صلاة ولا صيام ولا حج ولا عمل إلاّ إذا آمن بالقدر.
ومعنى أننا نؤمن بالقدر أن نؤمن بمراتبه الأربع، ونضع الميثاق في مرتبة الكتابة، ونختصر المراتب الأربع إِلَى مرتبتين هما: (العلم، والكتابة) وكل المراتب الأربع مترابطة، أي: كل ما خلقه فهو يشاؤه، وكل مايشاؤه، فهو أيضاً كتبه وكل ما كتبه فهو علمه.
ولقد قسم العلماء مرتبة الكتابة إِلَى خمسةِ أنواعٍ:
النوع الأولى: هي ماكتبه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وهي الكتابة الكونية، وسميت كونية: لأن الله كتب كل ما يقع في هذا الكون.
النوع الثاني: الكتابة النوعية: أي ما يتعلق منها بنوع الإِنسَان خاصة، وهذه هي التي كتبها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى ذرية آدم، حينما كتب أن هَؤُلاءِ في النَّار، وأخذ قبضةً بشمالهِ وقَالَ: هَؤُلاءِ في النَّار ولا أبالي، وأخذ قبضةً بيمنيه، وقَالَ: هَؤُلاءِ في الجنة ولا أبالي، والميثاق يتعلق بها، وهو أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى استنطق تلك الأرواح، ولكن تلك الأرواح كانت عَلَى نوعين:
نوع منها: كتب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى له السعادة أزلاً، فهذا النوع مكتوب له أنه من أهل الجنة.
والنوع الآخر: من كَانَ من أهل الشقاوة، وهذا قد ورد ما يؤيده في حديث الإسراء لما عرج بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فوجد أبانا آدم فإذا عن يمينه أسودة، وعن يساره أسودة، فإذا نظر ذات اليمين ضحك، وإذا نظر ذات الشمال بكى، فلما سأل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جبريل ما هذا يا جبريل قَالَ: هذا آدم إذا نظر إلي اليمين رأي أهل الجنة من ذريته فيضحك، وإذا نظر إِلَى اليسار رأى أهل النَّار من ذريته فيبكي، إذاً فالأمر قد كتب وَقُدِرَ عَلَى النَّوعِ الإِنسَاني، أنهم فريق في الجنة، وفريق في السعير.
النوع الثالث: الكتابة العُمْرية أو الفردية: التي تتعلق بالعمر ومقداره، وقد دل عليها حديث عبد الله ابن مسعود رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ: أخبرنا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو الصادق المصدوق {إن أحدكم ليجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثُمَّ يكون علقة مثل ذلك ثُمَّ يكون مضغة مثل ذلك ثُمَّ يرسل إليه الملك فيؤمر بكتب أربع كلمات: رزقه وعمله وأجله وشقي أو سعيد} فكل إنسان له كتابة خاصة، الكون له كتابة عامة، والجنس الإِنسَاني له كتابة عامة.
النوع الرابع: الكتابة السنوية أو الحولية وهي: ما يقدره اللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في كلِ سنةٍ، وتكون هذه الكتابة في ليلة القدر إِلَى مثلها في العام القادم.
النوع الخامس: التقدير اليومي، كما قال الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ((كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ))[الرحمن:29] فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كل يوم يقضي ويحكم ويكتب ما يشاء كما قَالَ: ((يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ)) [الرعد:39] وكل حادث يحدث لك في كل لحظة أو في كل يوم فهو أيضاً بقدر وبتدبير وبتصريف منه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لا شريك له في ذلك كله.

وبهذا التفصيل كله نفهم أن هذه الكتابة التي هي مرتبة من مراتب القدر تتعلق بالأنواع الخمسة كلها.